2009/11/24

الزواج بين لبنانيين وفلسطينيين

كيف تحافظ مجموعة قومية على حدودها؟  يقدم (دانيال ماير) هذه المسألة في مقالته Mariages sur la frontière du groupe national: Normalité et transgressions dans les unions matrimoniales libano-palestiniennes au Liban المنشورة في عدد شتاء عام ٢٠٠٨ من مجلة Cultures & Conflits والمتاحة للقراءة مجاناً على موقع المجلة.

يذكر (ماير) أن سياسة الدولة اللبنانية تجاه اللاجئين الفلسطينيين من أكثر السياسات تمييزاً في العالم العربي.  فالدولة لا تعترف بأنهم لاجئون أصلاً وإنما تعتبرهم مجرد « أجانب ».  وقد أنشأ القادة السياسيون اللبنانيون ما هو بمثابة حدود قانونية بين المواطنين اللبنانيين واللاجئين الفلسطينيين في أعقاب الحرب الأهلية (١٩٧٥-١٩٩٠).  ويؤكد المؤلف أن جزءاً كبيراً من الانتماء القومي اللبناني أصبح يعتمد على احتقار اللاجئين الفلسطينيين، الذين تم تحميلهم مسؤولية الحرب.  ويرى (ماير) أن دراسة الزواج بين أعضاء مجموعتين قوميتين قد تلقي الضوء على الطرق التي يتم بها تحديد الحدود الرمزية بين المجموعتين.  قد يتجاوز الأفراد هذه الحدود ولكن بشروط.  فيُعتبر الزواج بين لبنانيين وفلسطينيين مشلكة في حالات معينة بينما يُعتبر عادياً في حالات أخرى.

يقدم المؤلف عدة بيانات أساسية عن الموضوع، وأهم العوامل التي قد تسهّل هذه الزيجات أو تحول دونها، وفقاً لنتائج بحثه الميداني.  يذكر أن الزواج في لبنان ليس اتفاقاً بين فردين فحسب، بل يعبر عن التزام وتقدير متبادليْن بين عائلتين.  ويصعب الزواج بشكل عام بين عائلتين لا تنتميان إلى نفس الطائفة أو بين عائلة لبنانية وعائلة أجنبية.  وليس هناك زواج مدني في لبنان فيخضع الزواج لقانون الأحوال الشخصية الخاص بكل من الطوائف الثماني عشرة.  لذلك فإن الزواج بين امرأة مسلمة ورجل غير مسلم ممنوع، على سبيل المثال.  وليس من حق امرأة لبنانية أن تعطي أبناءها جنسيتها إذا كان أبوهم أجنبياً، حتى ولو وُلدوا في لبنان، مما يمنعهم من العمل في بعض المهن.  وعلاوة على ذلك فإن المرأة الفلسطينية التي تتزوج لبنانياً تحصل على إقامة لبنانية فوراً، ثم الجنسية اللبنانية بعد عام من الزواج، بينما الرجل الفلسطيني الذي يتزوج لبنانية لا يحصل على إقامة ويظل لاجئاً.  ويحدث الزواج بين لبنانيين وفلسطينيين خاصة بين مسلمين، فإن تجنيس الفلسطينيين المسيحيين في لبنان تم بشكل جماعي في الخمسينيات.

ويؤكد (ماير) مع ذلك أن المتغير الطائفي ليس أهم المتغيرات التي تتحكم في احتمال هذه الزيجات، فإنه يبدو أن المتغير الجغرافي أهم.  وذلك أولاً لأن معظم هذه الزيجات تتم في جنوب لبنان، حيث استقر معظم الفلسطينيين الذين لجؤوا إلى لبنان بعد تهجيرهم من فلسطين في عام ١٩٤٨.  كما تتم خاصة خارج المخيمات الفلسطينية.  ويذكر المؤلف أن نصف اللاجئين الفلسطينيين تقريباً في لبنان يسكنون خارج المخيمات.  وثانياً فإن القرب الاجتماعي المرتبط بالقرب الجغرافي بين عائلات تسكن في نفس الأحياء، هو أحد أهم العوامل التي تسهّل الزواج فيما بين المجموعتين، حتى وإن كان اللبنانيون من الشيعة والفلسطينيون من السنة.  أضف إلى ذلك متغيراً زمنياً، فكلما كان الفلسطيون أقوياء في لبنان بشكل عام (خاصة في أوائل السبعينيات)، كلما سهل الزواج بينهم وبين اللبنانيين.

ثم يقسم الباحث الزيجات بين المجموعتين إلى ثلاثة تصنيفات.  إن التصنيف الأول يحتوي على الزيجات التي لا تُعتبر اختراقاً للأعراف الاجتماعية فلا تسبب صراعاً في العائلات التي تشارك فيها، حتى ولو كان الزوج والزوجة من طائفتين مختلفتين.  ويتم الزواج بهذه السهولة خاصة بفضل المجاورة وبين عائلات ذات الدخل المنخفض.  وفي التصنيف الثاني نجد الزيجات التي تخالف الأعراف ولا تتم إلا بعد فترة تفاوض بين العائلتين.  ويؤكد (ماير) أنها تحدث خاصة بين عائلتين من طائفتين مختلفتين.  وفي التصنيف الثالث الزيجات التي تُعتبر اختراقاً خطيراً للأعراف فتؤدي إلى قطيعة، وتتم أحياناً بفضل خطف البنت.  ويؤكد المؤلف على أن ليس هناك فرق موضوعي بين الاختراق في هذا التنصيف والاختراق في التصنيف السابق، وإنما الفرق يكمن في رؤية العائلات إلى الموقف.  ويشير إلى أن الاعتراض على الزواج يأتي غالباً من جانب العائلة اللبنانية.  وتبقى الزيجات التي لا تتم، والتي لا نكاد نعرف عنها شيئاً، بين أفراد لا يستطيعون التغلب على اعتراضات عائلاتهم.

2009/11/12

العلم الإسلامي وصنع النهضة الأوروبية

هذه هي ترجمة لـحوار مع جورج صليبا نُشر على موقع (روروتوكو) حول كتابه Islamic Science and the Making of the European Renaissance، الذي صدر عام ٢٠٠٧:
باختصار

بدأ هذا الكتاب منذ ما يقارب عشرة أعوام. في البداية، كنت أريد أن أعرف ما هي الظروف التي يمكن فيها لحضارة ما أن تنتج العلم من جديد.

درست في الماضي الساميات القديمة والرياضيات، ولكني كنت مهتماً دائماً بتلك الإشاعات التي يعرفها القارئ غير المتخصص، أي أن الاختراع الكبير للعلم كان في الحقيقة مشروعاً يونانياً، وأن كل ما سواه هو إما ظل لما صنعته الحضارة اليونانية القديمة أو امتداد له.

ويمتص المرء تلك الأفكار النمطية في الصبا فيعتبرها عادية. ولكني كنت قد درست الرياضيات، وبدأت أقرأ شيئاً من الأبحاث العلمية التي كانت قد كُتبت في الحضارة الإسلامية، فازددت حباً للاطّلاع. ومن هذا المنطلق لاحظت أن بعض هذا العلم لم يكن مجرد ظل للمشروع اليوناني، وإنما كان كأنه إعادة تركيز للضوء، أو رؤية جديدة لم يكن يعرفها اليونانيون.

وبدأت أتساءل أيضاً عن حقيقة يعرفها كثير ممن يدرس التاريخ ومن القراء غير المتخصصين، أي أن فترة فوران مدهش جاءت في عصر الحضارة اليونانية القديمة، من القرن الرابع قبل الميلاد إلى القرن الثاني بعد الميلاد تقريباً. اتفق أن كل العظماء الذين تخطر أسماؤهم على بالنا، في كل المجالات، عاشوا في هذه الفترة، مثل أفلاطون وأرسطو وكلاوديوس بطليموس وإقليدس وديوفانطوس وجالينوس ودياسقوريدوس. وانتهى كل شيء بحلول القرن الثاني. ثم لم يحدث شيء. وفجأة، في القرن التاسع، نسمع عن خلفاء بغداد المتحمسين الذين حفزوا على أشياء كثيرة، وترجموا أشياء كثيرة، واستوعبوا كل الأعمال اليونانية.

إن كل ذلك يبدو لي كأنه غير تاريخي تماماً. إن السياسيين الذين أعرفهم أو أقرأ عنهم لا يفعلون ذلك عادة. لماذا كان حكام بغداد ليكونوا أحكم من سياسيي يومنا هذا؟ كنت أريد أن أعرف ماذا أثار ذلك الاهتمام بالعلم اليوناني، بعد مرور سبعمائة سنة. ما هي الدوافع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والشخصية للعلماء الذين صنعوا هذا العلم الحديث؟

من زاوية واسعة

يقدم الفصلان الأولان من الكتاب قراءة جديدة تماماً لهذه الفترة. لا أعتقد أن الأحداث تحدث دون سبب، أو أن خليفة واحداً أو شخصاً واحداً يستطيع أن يحيي ثقافة بكاملها. لا تتشكل الثقافات بهذه الطريقة.

إن تعريف الثقافة الإسلامية لنفسها كإسلامية كان شيئاً جديداً. كانت هذه أول مرة قام فيها دين بإنشاء كيان سياسي وبتعريف نفسه تعريفاً سياسياً. وبدأت بيئة ذات طابع سياسي وديني، ألهمها القرآن وحياة النبي، تحدد الثقافة. يتكلم النبي عن نفسه على أنه امتداد لاتجاهات النبوءة المعروفة من العهدين القديم والجديد. يعتبر رسالته إكمالاً وليس تمرداً.

كانت الإمبراطورية الإسلامية في أوجها أكبر إمبراطورية كانت الحضارة البشرية قد شهدتها حتى ذلك الوقت. كان توسعها الجغرافي هائلاً. وورثت إمبراطوريتين سابقتين، وهما الإمبراطورية الرومانية ، والإمبراطورية الساسانية.

إن إدارة إمبراطورية ليست بالأمر الهيّن. فضلا عن أنّ هذه امبراطورية كانت تعاني من مشاكل جوهرية. فمن ناحية كان يجب أن تحترم الأخلاق التي كان الوحي الديني قد أتى بها، والسياق الديني للحياة، ومن ناحية أخرى كان يجب أن تتصرف كل يوم لتسن النظام السياسي.

تحمّل إدارةُ إمبراطوريةٍ الحاكم مسؤولية رفاهية رعيته، والاقتصاد، والدفاع، والصحة العامة. فأدركتُ الصعوبة الكبيرة التي كانت تواجه الخليفة. هل كان يمكن أن تسنح له فرصة التفكير، فجأة، في نص يوناني قديم كان ليحلو له أن يترجمه؟ بالطبع لا. ولكن هذا هو الإدراك الذي دلّني على كيفية قراءة النصوص التي سُجل فيها تاريخ تلك الإمبراطورية.

وعندما تنظر إلى الظروف الاجتماعية والاقتصادية، في الحياة اليومية، يتبين أنه كان هناك حاجة ماسة إلى المواءمة بين إدارتي الإمبراطوريتين السابقتين. بل وإنهما كانتا تتكلمان لغتين مختلفتين لم تكن أية منهما العربية. فالإمبراطورية البيزنطية كانت تسيّر أعمالها باليونانية بينما الإمبراطورية الساسانية كانت تستخدم البهلوية (الفارسية القديمة).

لذلك كانت ترجمة الإجراءات البيروقراطية للإمبراطوريتين السابقتين هي الخطوة الأولى في إدارة الإمبراطورية الجديدة.

وكانت المواءمة بين المصطلحات البيروقراطية لتشمل في حد ذاتها تقسيم الأراضي لتحصيل الضرائب. وكان هذا ليشمل مؤلفات رياضية وفلكية ابتدائية في مسح الأراضي ووضع التقاويم وأشياء مثل تحديد طول النهار وأوقات طلوع النجوم وأفولها، إلخ. كما يجب ألا ننسى الرعاية الطبية الأساسية والحاجة إلى تدبير رعاية الصحة العامة. وبعبارة أخرى فإنه كان هناك حاجة إلى علم متطور. كان لا بد من العلم لبناء إمبراطورية أفضل من الإمبراطورية المهزومة.

كنت قد قرأت فيما مضى عن ابن خليفة طمح في أن يصبح خليفة، ولكن ذلك لم يسنح له، فاهتم بالخيمياء ليعوض نفسه عن الخلافة. (وفي الواقع فإن النصوص الأولى التي نسمع عن ترجمتها من اليونانية إلى العربية كانت النصوص الخيميائية والتنجيمية.) وحسب فهمنا التقليدي للخيمياء فإن هذا الرجل كان يحاول أن يصنع الذهب. فتضحكك هذه الحكاية من الرجل الذي لم يحصل لا على الخلافة ولا على الذهب.

ولكن تبين أنه كان مهتماً بالنسبة الحقيقية للذهب والسبائك التي يجب خلطها لصنع عملة. فإنه لا يمكن تأسيس إمبراطورية دون عملة. وفي هذه الفترة، أي القرن السابع والقرن الثامن، لم يكن يعرف كيف يتمّ ذلك سوى أهل الخيمياء. كانوا يعرفون كيف يزنون بأثقال صغيرة جداً. وهذا هو سبب الاهتمام بالخيمياء وترجمة النصوص الخيميائية.

وكلما طال الاستقرار كلما زاد إنتاج العلم. فأوقات الاضطراب ليست مواتية للعلم. حكم عبد الملك بن مروان لمدة عشرين سنة تقريباً، من ٦٨٥ إلى ٧٠٥. وكان يجب إجراء جميع المعاملات البيروقراطية باللغة العربية طوال هذه الفترة. ولذلك كان لا بد أن يتحدث البيروقراطيون العربية كلغة أمّ أو أن يتعلموها. وبالتالي فإن البيروقراطيين الذين كانوا يعملون منذ ما قبل الإمبراطورية الجديدة لم يعودوا مطلوبين.

فإذا فكرنا تفكيراً سوسيولوجياً، فما هو رد الفعل المتوقع من مجموعة من البيروقراطيين المفصولين الذين لم يعودوا مطلوبين في الإمبراطورية؟ إن الاختيارات محدودة: قد يعفو عليهم الزمن، أو قد يتخصصوا فيما تحتاج إليه الإمبراطورية ويعودوا بمعرفة أكثر تطوراً بكثير.

وهذا ما حدث بالفعل. عاد الجيل اللاحق ممن تم فصلهم من بيروقراطية الإمبراطورية. فتظهر أسماؤهم في التاريخ: الطبيب الخاص للخليفة، والمنجم الخاص للخليفة، ومدير هذا أو ذاك. إن منافسة من كانوا قد تولوا مناصب آبائهم هي ما حفز هؤلاء الأفراد إلى التمكن من العلوم الأكثر تطوراً.

وهذا دافع من دوافع الرجوع إلى أهم النصوص اليونانية القديمة التي كانت قد نُسيت لمدة سبعمائة سنة. فإن في بيئة تنافسية جديدة يعود المرء بمعرفة جديدة تمكّنه من منافسة من حلوا محل أبيه في البيروقراطية.

إن هذا يفسر ترجمة النصوص اليونانية تفسيراً أكثر إقناعاً من فكرة حلم خليفة بالاطّلاع على ما كان أرسطو قد قاله. الشخص الذي يحصل على وظيفة بفضل ما قاله إقليدس وديوفانطوس وجالينوس، هو الذي يدعو إلى ترجمة كتبهم. كان يمكن لهؤلاء الأشخاص، بعد أن تسلحوا بهذه النصوص الأساسية، أن يتولوا مناصب بيروقراطية أعلى من مناصب من حلوا محل آبائهم.

يروي إذاً الفصلان الأولان من الكتاب حكاية نشأة العلم كرد فعل على محض حاجات الإمبراطورية الجديدة، ويشرحان أسباب ازدهار هذا العلم، ويأخذان في الاعتبار الظروف التنافسية التي أحدثتها الإمبراطورية الجديدة. كل هذا اقتصادي وسياسي حتى العظم.

وما زال الدين مهماً. قدّم الإسلام حافزاً، باعتباره ديناً جديداً في الإمبراطورية، على تساؤلات لم تكن متوقعة في التراث اليوناني.

وعلى سبيل المثال فعلى المسلم أن يصلي خمس مرات في اليوم ويتجه إلى القبلة. وكلا هذين الشيئين بسيطان. ولكنهما معقدان جداً إذا أخذتهما مأخذ الجد. فإن وقت إحدى الصلوات مرتبط بطول ظل المرء على الأرض. وكان من المفترض، في البداية، أن يبدأ وقت صلاة العصر حين يصير ظلك مثلك وينتهي حين يصير ظلك مثليك. كان من المفترض أن تتم صلاة العصر في حدود تلك الفترة. وكان ذلك يصلح في مكة وفي منطقة قد يكون أقصاها المدنية. ولكن في دمشق أياماً كثيرة في كل عام لن يكون ظلك مثلك أبداً في أي ساعة من ساعات النهار. فمتى تبدأ الصلاة؟

أدت هذه المسألة البسيطة جداً إلى دراسة لأطوال الظلال عند دوائر عرض مختلفة. فأصبحت الجغرافيا الرياضية جزءاً لا يتجزأ من الصلاة. وإذا خضت في الجغرافيا الرياضية فإنّك تدخل في علم الفلك من الباب الكبير. فإنك تتعلم مواقع الشمس في كل يوم من أيام السنة، وأين أنت على الكرة الأرضية بالنسبة للشمس، وكيف تلقي الشمس الظل، وما علاقة الظل بموقعك. وكل هذه الأسئلة مقدمات ممتازة في علم الفلك. فهل يبقى أي تساؤل عن سبب الحاجة إلى النصوص الفلكية؟

ثانياً، لم يفكر أي يوناني في أن يتجه إلى مدينة معينة وهو يصلي. ويوجب الإسلام على المسلم أن يتجه إلى مكة عند الصلاة. غير أن رؤيتنا للعالم معتمدة على خرائط مسطحة. عندما أسأل طلابي أين مكة، بالنسبة لموقعنا في نيويورك، يقول تسعة من كل عشرة « جنوب شرق »، لأنهم ينظرون إلى الخريطة المسطحة. فيذهلون بأن مكة، في الحقيقة، شمال شرق موقعك إذا كنت في نيويورك. وهذا هو السبب في أن الطائرات المتجهة إلى أوروبا تطير فوق بوسطن. ولكن التوصل إلى هذا الإدراك يتطلب علماً متطوراً للمثلثات الكروية، أي يتطلب قوانين لحساب المثلثات لم يكن اليونانيون في حاجة إليها. ومن هنا نشأ مجال علمي جديد.

والجزء الثاني من الكتاب يتناول تأثير كل هذه الأعمال على أوروبا.

ففي القرنين الثاني عشر والثالث عشر قامت في أوروبا حركة كبيرة لترجمة نصوص من العربية إلى اللاتينية. وجرت العادة على اعتبار هذه الفترة فترة استعادة أوروبا لجذورها إذا جاز التعبير. يقال إنه لم يمكن العثور على النصوص اليونانية فتمت ترجمتها عن طريق العربية.

ولكن غير صحيح أنه لم يمكن العثور على هذه النصوص. إنما تم العثور عليها وترجمتها مباشرة من اليونانية بعد ذلك، في القرنين الخامس عشر والسادس عشر. فلماذا ترجموها من العربية إذا كان نفس النص موجوداً في اليونانية؟

إن لب حجتي هو أن العلماء الأوروبيين استعملوا اللبنات الأولى التي كانت قد تشكلت في الحضارة الإسلامية ليبنوا علمهم الجديد. ومعنى ذلك ليس أن النهضة الأوروبية ليست نهضة رائعة. إنها فعلاً إحدى الفترات الأكثر إبداعاً في التاريخ.

ولكنه من الجدير بالذكر أن منهج الترجمة تغير بعد القرن الرابع عشر. في القرنين الخامس عشر والسادس عشر لم يعد الأوروبيون يتناولون تلك النصوص العربية بالطريقة التي كانوا قد تناولوها بها في العصور الوسطى. فإن العلماء الأوروبيين كفوا عن توظيف مترجمين وتعلموا العربية أنفسهم.

هل يجوز أن نفترض أن علماء عصر النهضة كانوا أقل ذكاء من علماء يومنا هذا؟ إذا سألتَ عالِم معاصر عمّا قيل في الفيزياء منذ خمسين سنة، فسيقول لك إن الزمن قد عفا على كل ذلك. لا يقرأ علماء اليوم ما كُتب في مجالاتهم منذ خمسين سنة. لا يهتمون إلا بأحدث شيء. فلماذا كان عالِمٌ في عصر النهضة ليقرأ نصاً مكتوباً في اليونان القديم قبل ذلك بألف سنة، بينما كان ذلك النص قد خضع للمناقشة والانتقاد والتحديث في العالم الإسلامي؟

فيتناول الجزء الثاني من الكتاب مثل هذه الأمور.

صورة مقربة

وأضرب مثال كوبرنيكوس، الذي التقط من النصوص العربية كل المبرهنات الرياضية التي كان يحتاج إليها، أو يكاد، لبناء علم فلكه. لم تكن هذه المبرهنات موجودة في النصوص اليونانية القديمة.

ويثير ذكر كوبرنيكوس الاضطراب لأننا ننسب إليه اكتشاف دوران الأرض حول الشمس. ولم يجد كوبرنيكوس هذه الفكرة عند أي عالِم فلك مسلم أعرفه. لم يكن أي عالِم فلك مسلم أعرفه ليؤمن بنظرية مركزية الشمس أو ليسمح بعلم كونيات يتضمن نظرية مركزية الشمس. لم يستطيعوا، ولم يستطع كوبرنيكوس، تبيين البنية المادية للكون، فهذا التبيين يعتمد على قانون أساسي كان نيوتن سيكتشفه بعد عهد كوبرنيكوس بمائة سنة.

غير أن كوبرنيكوس كان في حاجة إلى الآليات الرياضية التي تستوعب حركات الكواكب. كان في حاجة إلى نموذج تنبؤي ليعرف الموقع الذي سيظهر فيه كوكب ما في وقت ما لمعاين على الأرض. وإذا سألتَ عن موقع ظهور الكوكب لمعاين على الأرض بدأتَ في حل المشكلة بالنسبة لكون متمركز على الأرض. وكانت جميع هذه الإجابات موجودة بالفعل في العالم الإسلامي.

ويبقى السؤال: لماذا فعل كوبرنيكوس ذلك؟ هناك أشخاص كثيرون يجيبون على هذا السؤال بطرق مختلفة كثيرة. ولكن أية من هذه الإجابات ليست مقنعة حقاً بالنسبة لعلم الكونيات. لأنها لا تبين القوة التي تربط بين الكواكب والشمس. حتى كيبلر، الذي يأتي بعد كوبرنيكوس، والذي ينبغي أن يُسمى أب علم الفلك الحديث، كان يعتقد أن الكواكب تتجاذب كالمغناطيسات. استخدم كيبلر المغناطيسية كاستعارة لهذا التجاذب لأنه لم يكن على علم بعد بقانون الجذب العام لنيوتن.

ومن ناحية أخرى، إذا فكرتَ تفكيراً رياضياً، فلا يهم ما إذا كان مركز الكون في الشمس أو الأرض. وهذا ما مكّن كوبرنيكوس من قلب كل الرياضيات التي كانت قد تطورت في العالم الإسلامي ليستخدمها في نظرية مركزية الشمس.

أخيراً

لماذا لم يستمر هذا النشاط العلمي في الإسلام؟ أقول عدة أشياء في الكتاب عن مفهوم « التدهور ». يتحدث الناس عن الصعود والسقوط، وعن الحركة الدورية، ومثلاً عن صعود الإمبراطورية العثمانية وسقوطها، أو صعود الإمبراطورية الرومانية وسقوطها. لستُ مقتعناً جداً بهذه الفكرة. انهارت الإمبراطورية الرومانية بالفعل، ولكنها انهارت بعد ألف وخمسمائة سنة. لا يرجع التدهور إلى دورة من حيث هي دورة، وإنما تتغير كل الأشياء، بما فيها قوة الإمبراطوريات، عندما تتغير الظروف التاريخية.

انظر إلى خريطة أوروبا في عام ١٤٠٠، تجد كل طرق التجارة تتقاطع في قلب العالم الإسلامي. لم يكن أي تاجر أوروبي يتصور أنه قد يجني مالاً دون أن يدفع بعضه لمحصل ضرائب في ميناء إسلامي أو مدينة إسلامية. وأصبحت هذه الخريطة مختلفة جداً في العام ١٥٥٠. لقد انتقلت كل طرق التجارة فتجتاز المحيط الأطلسي. فالاكتشاف العرضي للعالم الجديد هو ما أفقد العالم الإسلامي الصدارة في التجارة.

فالأسئلة السخيفة عما « أخطأ » في الإسلام وعن السبب في أن العلم فات المسلمين بعد أن ملكوه، إنما يجيب عليها سؤال آخر: « لماذا وكيف أنتجت أوروبا العلم في الحقيقة؟ »

سيكون هذا موضوع كتابي المقبل. كما تناولتُ آليات إنتاج العلم في بداية الحضارة الإسلامية، أريد الآن تناول الآليات التي حولت تلك الثروة، والظروف الاقتصادية في الواقع، إلى إنتاج العلم في أوروبا. كيف أنتج الأوروبيون علماً تعذر على الحضارة الإسلامية، وعلى الحضارتين الصينية والهندية غير الإسلاميتين، أن تقلده؟